فصل: تفسير الآية رقم (31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (21):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [21].
{وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً} أي: اجتمعوا لحسابه وقضائه يوم القيامة في براز من الأرض، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً، أو برزوا من قبورهم، أي: ظهروا لذلك: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ} وهم الأتباع: {لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ} أي: على الرسل وهم قادتهم- توبيخاً لهم: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً} أي: تابعين، مهما أمرتمونا ائتمرنا: {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ} أي: بعض الإغناء: {قَالُواْ} أي: المستكبرون: {لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} إحالة لضلالهم وإضلالهم، على مقامه سبحانه، أو لو هدانا باهتدائنا، ولكن زغنا فأزاغنا، كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: من الآية 5]، {سَوَاء عَلَيْنَا أجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي: منجى ومهرب من العذاب. ونظير الآية قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} [سبأ: من الآية 31].
واستظهر ابن كثير هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها لآية: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ} [غافر: 47].
ولا يخفى أن الآية في هذه السورة تصدق بالتخاصم في الموقف وفي النار؛ لإفادتها أن ذلك أثر بروزهم، وهو صادق بما ذكرنا، فلا قرينة فيها؛ لكون ذلك في النار فقط، كما ادَّعاه. وربما كان قوله: {وَبَرَزُواْ} يدل للموقف بمعناه المتقدم. ثم إن هذا التخاصم يجوز أن يكون متعدد المواطن لظاهر قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} وقوله: {في النَّارِ} ويجوز أن يكون مرة واحدة. والمراد بـ: {النار} العذاب. ووقوفهم عند ربهم، واليأس محيط بهم، وجهنم ترقبهم، عذاب وأي عذاب!.

.تفسير الآية رقم (22):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [22].
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ} وهو الحكم بنجاة السعداء وهلاك الأشقياء: {إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} أي: على ألسنة رسله بأن في إتباعهم النجاة والسلامة، أي: فوفى به وأنجز: {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي: ووعدتكم وعد الباطل، وهو أن لا بعث ولا جزاء. ولئن كان، فالأصنام شفعاؤكم. ولم يصرح ببطلانه لدلالة قوله: {فَأَخْلَفْتُكُمْ} عليه. والإخلاف مستعار لعدم تحقق ما أخبر به وكذبه، أو مشاكلة. وفي الآية من الإيجاز البليغ شبه الاحتباك. حيث حذف أولاً فوفى به لدلالة قوله بعدُ: {فَأَخْلَفْتُكُمْ} عليه لأنه مقابله، وحذف ثانياً وعد الباطل لدلالة: {وَعدَ الْحَقِّ}.
{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ} أي: حجة وبرهان: {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أي: أسرعتم لطاعتي بمجرد ذلك، أي: وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه: {فَلاَ تَلُومُونِي} أي: بوعدي إياكم، إذ لم يكن بطرق القسر: {وَلُومُواْ أَنفُسَكُم} أي: حيث استجبتم لي باختياركم، حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل. ولم تستجيبوا ربكم، إذ دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبراهين والحجج.
قال القاشاني: لما ظهر سلطان الحق على شيطان الوهم وتنوَّر بنوره، أسلم وأطاع وصار محقاً، عالماً بأن الحجة لله في دعوته للخلق إلى الحق لا له. ودعوته إلى الباطل بتسويل الحكام وتزيين الحياة الدنيا عليهم واهية فارغة من الحجة. وأقرَّ بأن وعده تعالى بالبقاء بعد خراب البدن والثواب والعقاب عند البعث حقٌّ قد وفى به. ووعدي بأن ليس إلا الحياة الدنيا باطل اختلقته. فاستحقاق اللوم ليس إلا لمن قبل الدعوة الخالية عن الحجة فاستجاب لها. وأعرض عن الدعوة المقرونة بالبرهان فلم يستجب لها. انتهى.
وحكي في الإكليل عن ابن الفرس: أن بعضهم انتزع من هذا إبطال التقليد في الاعتقاد. قال: وهو انتزاع حسن؛ لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه، ولم يطلبوا منه برهاناً. فحكى الله تقبيحاً لذلك الفعل منهم. انتهى.
{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} أي: بمغيثكم ومنجيكم من العذاب: {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} أي: مما أنا فيه. قال ابن الأعرابي: الصارخ: المستغيث، والمصرخ: المغيث، يقال: صرخ فلان إذا استغاث وقال: واغوثاه! وأصرخته: أغثته. فالهمزة للسلب، يعني أزلت صراخه، وهو مدُّ الصوت {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} أي: كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم- أي: في الدنيا- يعني: جحدت أن أكون شريكاً لله عز وجل، وتبرأت منه ومنكم، فلم يبق بيني وبينكم علاقة كقوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُم} [فاطر: من الآية 14]، وقوله: {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6]، وقوله: {كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً} [مريم: 82] {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ابتداء كلام منه تعالى، أو تتمة كلام الشيطان.
قال الزمخشري: وإنما حكى الله عز وعلا ما سيقوله في ذلك الوقت؛ ليكون لطفاً للسامعين في النظر لعاقبتهم والاستعداد لما لابد لهم من الوصول إليه، وأن يتصوروا في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول الشيطان فيه ما يقول، فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم.
ولما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال، عطف بمآل السعداء بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (23):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [23].
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: بالله ورسوله وكتابه: {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: الطاعات: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي: من تحت مساكنها وشجرها، أنهار الخمر والماء والعسل واللبن: {خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} متعلق بـ: {أدخل} أي: أدخلتهم الملائكة الجنة بإذن الله وأمره: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي: تحييهم وتكرمهم الملائكة بالسلام عليهم، كقوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُم} [الزمر: من الآية 73]، وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سلامٌ عَليْكُم} [الرعد: 23- 24].
ولما بين تعالى ما أعد للمشركين والمؤمنين من المآل الأخروي، ضرب مثلاً للشرك والإيمان- بأن مآل الثاني الثبات والاستقرار؛ لأنه الذي ينفع الناس، ومآل الأول إلى الدمار والاندحار- فقال سبحانه:

.تفسير الآيات (24- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [24- 25].
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يعني في الأرض ضارب بعروقه فيها: {وَفَرْعُهَا} أي: أعلاها ورأسها: {فِي السَّمَاء تُؤْتِي أُكُلَهَا} أي: ثمرها: {كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} أي: بإرادته وتكوينه: {وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي: لأن فيها زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني المعقولة بالصور المحسوسة.

.تفسير الآية رقم (26):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} [26].
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ} أي: استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية: {مِن فَوْقِ الأَرْضِ} أي: لأن عروقها قريبة منه: {مَا لَهَا مِن قَرَارٍ} أي: استقرار.
تنبيه:
لحظ في الممثل به- أعني الشجرة- أوصاف جليلة لتلحظ في جانب الممثل له. فمنها: كونها طيبة، أعم من طيب المنظر والصورة والشكل ومن طيب الريح وطيب الثمرة وطيب المنفعة. وكون أصلها ثابتاً أي: راسخاً باقياً في أمن من الانقلاع والانقطاع والزوال والفناء ليعظم الفرح به والسرور. وكون فرعها في السماء فدل على كمال حال تلك الشجرة من جهة ارتفاع أغصانها وقوتها في التصاعد، مما يبرهن على ثبات الأصل ورسوخ العروق، وجهة بعدها عن العفونات والأقذار فتكون ثمرتها نقية طاهرة طيبة عن جميع الشوائب، وكون ثمرتها تجتنى كل حين فلا تنقطع بركاتها وخيراتها. ولا ريب أن وجود هذه الأوصاف مما يدل على فخامة الموصوف وإنافة فضله. ولا تخفى مطابقة هذا الممثل به للممثل له- أعني الحق- وهو الإسلام الذي جاء به خاتم الأنبياء عليهم السلام.
ولما كان المثل مضروباً للحق والباطل في الثبات وعدمه، والقصد أهلهما، صرح بهما فذلك له، فقال في أهل المثل الأول:

.تفسير الآية رقم (27):

القول في تأويل قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} [27].
{يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} القول الثابت: هو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة وهو الحق. و{بالقول} جوزوا تعلقه بـ: {يثبت} و{آمنوا}. والمعنى على الأول: ثبتهم بالبقاء على ذلك، أو ثبتهم في سؤال القبر به، وعلى الثاني فالباء سببية، والمعنى: آمنوا بالتوحيد الخالص فوحدوه ونزهوه عما لا يليق بجنابه. و{في الحياة} متعلق بـ: {يثبت} أو بـ: {الثابت} كما قاله أبو البقاء. واقتصر الزمخشري وأتباعه على الأول حيث قال: القول الثابت الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه فاعتقده واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلِّوا، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وتثبيتهم في الآخرة أنهم إذا سئلوا عند تواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يتلعثموا ولم يبهتوا ولم تحيرهم أهوال الحشر. وقيل: معناه: الثبات عند سؤال القبر. فعن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سُئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: فذلك قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}» رواه الشيخان وأهل السنن.
وعليه، فتفسير الآخرة بالقبر؛ لكون الميت انقطع بالموت عن أحكام الدنيا.
وقال في أصحاب المثل الثاني:
{وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ} أي: يخلق فيهم الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم، ووصفهم بالظلم لوضعهم الشيء في غير موضعه، أو لظلمهم أنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها: {وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء} أي: من التثبيت والإضلال حسبما تقتضيه حكمته البالغة.

.تفسير الآيات (28- 30):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [28- 30].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً} يعني كفار مكة، أتتهم نعمة الله، وهي التوحيد والإيمان والهداية ببعثة رسول من أنفسهم، فبدلوا شكرها كفراً عظيماً وغمصاً لها: {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ} أي: ممن أضلوه وصدره عن الهدى فتابعهم: {دَارَ الْبَوَارِ} أي: الهلاك.
{جَهَنَّمَ} عطف بيان لها: {يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً} أي: من الأوثان فعبدوها: {لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ} أي: عن عبادته وحده: {قُلْ} أي: تهديداً لأولئك الضالين المضلين: {تَمَتَّعُواْ} أي: بشهوات الحياة الدنيا: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}.

.تفسير الآية رقم (31):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ} [31].
{قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} وهو يوم القيامة: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ} أي: ليتدارك به التقصير، أو يفتدى به: {وَلاَ خِلاَلٌ} أي: مخالة. مصدر بمعنى المصاحبة، أي: لا مفاداة فيه ولا خلة أحد بمغنية شيئاً من شفاعة أو مسامحة بمال يفتدي به، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [البقرة: 123].
قال الزمخشري: فإن قلت: كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟
قلت: من قبل أن الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجروا بهداياهم أمثالها، أو خيراً منها. وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً، فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبُعثوا عليه ليأخذوا بدله في اليوم: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالة ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. انتهى.
قال أبو السعود: والظاهر أن {من} متعلقة بـ: {أنفقوا} وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه، من حيث إن كلاً من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير، معاوضة وتبرعاً، وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيله تعالى. أو من حيث إن ادخار المال وترك إنفاقه، إنما يقع غالباً للتجارات والمهاداة. فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة، فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت. وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال، وكونها مجبولة على حبه والفتنة به. ولا يبعد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضاً، من حيث إن تركها، كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبيوع والمخالات. كما في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: من الآية 11]. ولما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى، وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكراً لنعمه، شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام، حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المخلين بها، الواضعين موضعها الكفر والمعاصي، فقال سبحانه: